"طوبى للذين استشهدوا حول أسوار طروادة لأنهم لم يشهدوا ذُلَّ الوطن".
هوميروس - الإلياذة.
كلُّنا... كلُّ من يحترم ذاتَهُ بات يتمنّى أن تحقق ذاتُه نعمة الإستشهاد حول أسوار الوطن الذي تلطَّخ مجده بالذل وهو الفريد في الدنيا، لا شبيه له في سماوية الأرض، وقد شوَّهوا صورته، وصورة السماء فيه، وصورة الله في السماء، وصورة السماء على الأرض.
هذا الوطن الذي كان أنموذجاً في حضارته، رائداً في مدنيَّته متفوقاً في ثقافته، مميَّزاً في وحدته... هم الذين حطَّموا كيانه، وقوَّضوا بنيانه، ووثَّنوا أديانه، وحقّروا إنسانه، ومسَخْوه متخلفاً على مثالهم الهمجي.
أخاطبهم، كمثل من يكسر سيفه في الهواء وهو يحارب الشيطان، وكمثل من يخاطب الحاضر الغائب، والمعلوم المجهول، والموجود واللاّموجود، لأن الموجودين أصبحوا في عداد المجهولين، غارقين في موجة سحيقة من اللاّوعي الفكري، ولم يبق عندنا مَنْ: "أنا أفكر... إذنْ أنا موجود".
كلّهم موجود في اللاّمبالاة، أو في حضور الهدم، بل في المباهاة الكاذبة بأنه هو الذي يبني، وهو الذي يحافظ على الإرث ويحقق الطموح الوطني ويؤمّن الإستقرار ويحفِّز الإزدهار، وهو الذي يخوِّن غيره الآخر، مع أنَّ هذا الآخر - على ما يقول الفيلسوف جورج هيغل - "هو شرط وجوده كأنسان" وهو أيضاً مرآته التي وإنْ تحطَّمَتْ فلا تتحطَّم معها صورة البشاعة التي تعكسها.
كلّهم، امرأة قيصر في عفّة النفس وطهارة الذيل والكفّ، وكلهم يستلهم القيم والمناقب وبراءة الممارسة وشفافية السلوك، وهمْ قراصنة يتسلَّقون الأسوار ويعضّون على السكاكين ليستولوا على ما لقيصر وما للّه معاً.
نحن إذاً، بفَضْلِ كلّهم، نَنْعم في وطن مسكون بالملائكة تجري في جنائنه أنهار اللبن والعسل وفيه تتراقص الحوريات، وكل ما فيه من مِحَنٍ وجرائم ومجازر وعنف وإرهاب وتفخيخ وخطف وسلب ونهب، كل هذا من أقاصيص الجن أو هو كالعنقاء في الخرافات المصرية، ذلك الطائر المقدس الذي يأتي من بلاد العرب.
وكل ما هو انهيار في الدولة والمؤسسات والعدل والأمن والحكومتين واللاّحكومة واللاّمجلس وربما اللاّحكم هو من أساطير الإغريق، وكلُّ ما هو سجال فضائحي بين وزير المال ووزير الأشغال في حكومة تصريف الأعمال، وما تزامن معه في خبر فضائحي آخر أوردته الصحف عن "رجل أعمال أخبر أحد المراجع عن مشروع لم يبصر النور قبل أن يدفع ثلاثين مليون دولار أميركي لأحد الوزراء..."، كل هذا وغيره حديث خرافة يا أمَّ عمرو، وخرافةٌ هو الحديث عن عُطْلٍ وعاطل وإعطال وتعطيل واستخراج جبْنَة النفط، كما في تدمير الإقتصاد والمرافق والخدمات والإصطياف والإصطفاف أمام السفارات والركض اللاّهث خلف الرغيف، كأنّ هذا كله من بِدَع بديع الزمان الهمزاني الذي يرويه دَجَلاً بطل المقامات في الروايات.
ومن أجل هذا كلّه... كَفْرتُ بهم وأنا أشهد ذل الوطن، وملَلْت مخاطبتهم، كأنما أنت تخاطب فيهم قبوراً تجري على الأرض في دولة أقل ما يقول فيها الشاعر:
قدْ سكرْنا فوَجَدْنا دولةً وصحَوْنا لم نجِدْ إلاّ المُدامَا.